JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->

في صمت الغربة

 


في صمت الغربة


حين غادر قريته الصغيرة، لم يحمل في حقيبته سوى بعض الملابس وصورة والدته وهي تبتسم. ظنّ أن الغربة مجرد وسيلة لتحقيق الأحلام، ولم يعلم أنها ستأخذ منه أشياء قبل أن تعطيه.

في المدينة البعيدة، كانت الشوارع مزدحمة والوجوه غريبة، والصوت الوحيد الذي كان يرافقه هو الحنين. كل مساء، يجلس في غرفته الضيقة يتفقد هاتفه علّه يجد رسالة من أحد. لكن الصمت كان يجيب.

بدأ يعمل في مطعم، ساعات طويلة مقابل أجور قليلة، يبتسم للزبائن وهو يخفي وجع الاشتياق. لم يكن يتذمر، لكنه كان يكتب في دفتره كل ليلة: "الغربة ليست بلدًا بعيدًا، بل شعور ثقيل في القلب".

مرت الأعوام، تغير شكله ولهجته، لكنه كلما سمع أغنية من بلده أو شمّ رائحة خبز الطفولة، تبللت عيناه. فهم حينها أن الغربة لا تقاس بالكيلومترات، بل بعدد الليالي التي تنام فيها دون أن تسمع من يناديك باسمك كما اعتدت.

وذات مساء، وبينما كان يمسح الطاولات في المطعم، اقترب منه طفل صغير وسأله ببراءة: "أنت من وين؟". ارتبك للحظة، ثم ابتسم وقال: "من بلاد بعيدة... فيها الشمس أحن، والناس يعرفون اسمك حتى قبل أن تولد".

هزّ الطفل رأسه ومضى، لكنه ترك في قلبه شيئًا حيًا. تلك الليلة، كتب في دفتره: "الغربة تُنسينا من نحن، لكنّها لا تقتل الجذور".

في الصباح التالي، قرر أن يصنع من وحدته جسرًا، لا قيدًا. بدأ يعلّم اللغة العربية لأبناء الجالية، يغني أغاني بلده في الحي، يطبخ أطباقًا تقرّب الروح وتوقظ الذكريات.

لم تعد الغربة سجنًا، بل صارت وسيلة ليحمل وطنه معه أينما ذهب. لم تعد الأيام تمر ببطء، بل صار لكل يوم معنى، ولكل غريب قصة، ولكل حنين هدف.

وحين عاد بعد سنوات، لم يكن نفس الشاب الذي غادر، بل رجل يعرف أن الغربة قد توجع، لكنها أيضًا تُعلّم كيف يُولد الإنسان من جديد… بعيدًا، لكن أقرب إلى نفسه من أي وقت مضى.

تحت ثقل الذكريات التي رُسمت في دفتر أيامه، قرر ذات يوم أن يعود إلى منبع حنينه. في رحلة عابرة بين شوارع بلدته القديمة، تلاقت عيونه مع تلك الوجوه التي لطالما افتقدها، وتسللت إليه رائحة الخبز الطازج وزقزقة الطيور في صباح جديد.


كان اللقاء مع الماضي كمرآة تكشف عن كل ما تغيّر فيه؛ فتلك البلدة الصغيرة التي عرفها بأزقتها وضحكات أطفالها، لم تعد كما كانت، لكنها حملت روح الزمن التي نسجت فيه الأحلام. جلس مع أصدقائه القدامى في مقهى حميم، واسترجعوا سوية قصص الغربة والأماني التي نقشوها على جدران قلوبهم.


في تلك اللحظة، أدرك أن الغربة ليست مجرد غرباء وأماكن، بل رحلة تعلم من خلالها أن الحب والحنين يبقى جسرًا يربط بين الماضي والحاضر. ومع بزوغ فجر يوم جديد، عاد إلى مدينته البعيدة وهو يحمل بين يديه رسائل اللقاء والعودة، مؤكداً أن الشوق للبيت لا يموت، بل يتجدد مع كل عودة تحمل بذرة أمل جديدة في قلبه.

author-img

cherki

برامج متنوعة تطوير مواقع ترفيه مساعدات مجانية طلبات الاعضاء والكثير من الخدمات المجانية
Kommentare
Keine Kommentare
Kommentar veröffentlichen
    NameE-MailNachricht